الخطة السرية من أجل ع 
الخطة السرية من أجل عملة عالمية
للكاتبة: إلين براون
عرض لفصل من كتاب “الأزمة الاقتصاية العالمية: الكساد العظيم للقرن الحادى والعشرين” لمؤلفيه “ميشيل شوسودوفيسكى” و “أندرو جيفن مرشال”
نشر بموقع جلوبال ريسرش بتاريخ 17 مارس 2011
Secretive Plan For a Global Currency
Excerpt from “The Global Economic Crisis: The Great Depression of the XXI Century”
by Ellen Brown
Global Research, March 17, 2011
ترجمة: سامى عزيز
في ختام اجتماعات مجموعة الدول العشرين الكبرى (G20) في لندن أصدرت بياناً بتاريخ 2/4/2009 تضمن الإعلان عن عزم هذه الدول على السعي مجتمعة للخروج بالاقتصاد العالمي من حالة الكساد والحيلولة دون وقوع مثل هذه الأزمات مستقبلاً، وأعلنت الإلتزام بإتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لاستعادة التدفقات الطبيعية للائتمان من خلال النظام المالي وضمان سلامة المؤسسات التي تلعب دوراً محورياً في هذا النظام، وأن تقوم دول مجموعة العشرين بتنفيذ سياساتها في إطار ما تم الاتفاق عليه بشأن إستعادة أنشطة الإقراض وإصلاح القطاع المالي. وقد تم الاتفاق على إجراء تخصيص عام لوحدات حقوق السحب الخاصة general [1]SDR allocation والذي يمكن من خلاله توفير سيولة للاقتصاد العالمي بنحو 250 بليون دولار.
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت مجموعة الدول العشرين الكبري (G20) تسعى إلى إنشاء بنك مركزي عالمي، وما هي الجهة التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، والتي يمكن أن تتوافر لها السلطة لإصدار عملة عالمية، وأن تفرض سياسة نقدية على كل دول العالم. وعندما التقى مسئولو البنوك المركزية في واشنطن في سبتمبر 2008، وقت حدوث الانهيار المالي، فقد تناولوا بحث ماهية الكيان الذي يمكن له أن يقوم بدور البنك المركزي القادر على مواجهة هذه الأوضاع. وذكر محافظ بنك انجلترا أن الإجابة على هذا السؤال يمكن أن تتمثل في بنك التسويات الدولية (Bank for International Settlements – BIS). وأشار محافظ بنك انجلترا إلى أن صندوق النقد الدولي غالباً ما يوجه تحذيراته بشأن المشكلات الاقتصادية بأسلوب يتسم بالدبلوماسية، في حين أن بنك التسويات الدولية يتمتع باستقلالية أكبر وهو مؤهل بدرجة أكبر للإضطلاع بهذا الدور إذا توافرت له الصلاحيات التي تؤهله للقيام بذلك.
وإذا كانت الرؤية المتعلقة بإنشاء عملة عالمية بعيداً عن سيطرة الحكومات غير كافية لتهدئة مخاوف أصحاب نظرية المؤامرة فإن إسناد جهة إصدارها إلى بنك التسويات الدولية من شأنه أن يهدأ من هذه المخاوف. وقد أنشئ بنك التسويات الدولية (BIS) في مدينة بازل بسويسرا في عام 1930. وقد عرف هذا البنك بأنه من أكثر المؤسسات فوق القومية التي تتمتع بالحصانة والسرية على المستوى العالمي. وكانت اتهامات قد وجهت إلى بنك التسويات الدولية بأنه كانت لديه ميول نازية خلال ثلاثينات القرن الماضي. وقد تبنت الحكومة الأمريكية قراراً أثناء مؤتمر بريتون وودز يطالب بتصفية بنك التسويات الدولية، وقد نجح ممثلو البنوك المركزية الأوروبية في هذا المؤتمر في سحب القرار الأمريكي بهذا الشأن.
وقد كشفت كارول كويجلي في كتابها In Tragedy and Hope: A History of the world in Our Time-1966) عن حقيقة الدور الذي يقوم به بنك التسويات الدولية في مجال التمويل الدولي. وقد عملت الدكتورة كويجلي أستاداً للتاريخ في جامعة جورج تاون، وتعتبر المعلم الخاص للرئيس بيل كلنتون. وقد عملت الدكتورة كويجلي ضمن مجموعة المصرفيين الدوليين (International Bankers): وقد برهنت على مصداقيتها من خلال تبنيها لأهداف هذه المجموعة، حيث كتبت تقول بأنها على علم بطبيعة المعاملات التي تجري من خلال بنك التسويات الدولية، حيث قامت يتتبعتها على مدى 20 عاماً. وقد سُمح لها لمدة عامين في أوائل ستينات القرن الماضي أن تقوم بتفحص أوراقه وسجلاته السرية. وأوضحت الدكتورة كويجلي أنه ليس لديها إعتراض على الجانب الأكبر من هذه المعاملات وأغراضها وأدواتها. وتبقى نقطة الخلاف الأساسية حول الرغبة في إحاطة هذه المعاملات بالسرية، حيث يلعب هذا البنك دوراً مهماً في النظام المالي العالمي مما يستدعي التعرف على هذا الدور.
وتشير كارول كويجلي إلى أن الرأسمالية المالية تسعى من خلال بسط نفوذها إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى، ليس أقلها العمل على تكريس نظام عالمي للسيطرة المالية في أيدٍ خاصة تكون قادرة على إخضاع النظام السيادي في كل بلد واقتصاد العالم ككل. إن مثل هذا النظام قد تشكل على النمط الإقطاعي بواسطة البنوك المركزية من خلال جهود منسقة على المستوى العالمي، وذلك من خلال اتفاقات سرية، تم التوصل إليها عبر العديد من الاجتماعات والمؤتمرات الخاصة. ويمثل بنك التسويات الدولية رأس هذا النظام بإعتباره بنكاً خاصاً تمتلكه وتديره البنوك المركزية التي نشأت منذ البداية كمؤسسات خاصة. ويعتمد نجاحهم في هذا الصدد على مدى سيطرتهم وتأثيرهم على النظام النقدي في أي بلد في ذات الوقت الذي تبدو فيه الأمور كما لو كانت تحت سيطرة الحكومة.
ويأتي ما ذكر سابقاً كصدى لما تم وضعه من أسس في القرن الثامن عشر على أيدي مؤسس أعرق العائلات المصرفية في العالم وهو السيد ماير امشيل بور روتشيلد والذي صرح في عام 1791 بالقول “دعوني أصدر وأتحكم في عملة بلد ولن يهمني بعد ذلك أمر من يضع القوانين في ذلك البلد”. وقد أرسل ماير أبناءه الخمسة إلى أهم العواصم الرأسمالية في أوروبا وهي لندن وباريس وفينا وبرلين ونابولي. وكانت المهمة الأولى لكل منهم إنشاء نظام مصرفي يكون بمنأي عن سيطرة الحكومة، وبذلك تكون النظم الاقتصادية والسياسية في هذه الدول تحت سيطرة المصرفيين ولمصلحتهم بعيداً عن سيطرة مواطنيها. وعلى هذا الأساس، تم إنشاء بنوك مركزية مملوكة ملكية خاصة في كل بلد. وأصبح نظام البنوك المركزية هذا مسيطراً على اقتصادات العالم، حيث تتمتع البنوك المركزية بسلطة إصدار النقود، وتلجأ الحكومات إلى الاقتراض من البنوك المركزية لتسديد الديون المستحقة عليها وتمويل المعاملات الحكومية. ونتيجة لذلك، فإن الاقتصاد العالمي، بما فيه القطاع الصناعي والحكومة، يعتمد على الائتمان (أو الدين) الذي يوفره القطاع المصرفي بشكل إحتكاري، تقوده شبكة من البنوك المركزية الخاصة، ويقوم على رأس هذه الشبكة بنك التسويات الدولية (BIS) الذي يعتبر البنك المركزي للبنوك المركزية ومقره بازل بسويسرا.
وقد حافظ بنك التسويات الدولية (BIS) على صورته في الظل لسنوات عديدة، حيث ظل يقوم بأعماله متخذاً فندقاً معزولاً مقراً له. وفي ذلك المكان تم اتخاذ قرارات لتخفيض قيمة عملات أو الدفاع عن عملات، وإتخاذ قرارات لتثبيت سعر الذهب، وتنظيم الأنشطة المصرفية فيما وراء البحار(offshore banking)، ورفع أو خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وفي عام 1977، تخلى بنك التسويات الدولية عن أسلوب التستر في ممارسة أنشطته ليتحول إلى إدارة هذه الأنشطة من خلال مراكز أكثر كفاءة. ويشغل بنك التسويات الدولية حالياً مبنى يتكون من 18 طابقاً على شكل ناطحة سحاب دائرية، تشبه مفاعلاً نووياً أقيم في غير موضعه، في تلك المدينة التاريخية (بازال) التي تنتمي إلى العصور الوسطى. ويُعرف هذا المبنى الآن بأسم برج بازال (Tower of Basel). ويتمتع بنك التسويات الدولية بحصانة حكومية، ولا يدفع ضرائب، وله قوة بوليس خاصة به. وهو بالضبط كما أراده ماير روتشيلد، فوق القانون.
ويتكون بنك التسويات الدولية من 55 دولة عضو. ولكن الأعضاء (النادي) الذين يلتقون بصورة منتظمة في بازال هم أقل من ذلك بكثير. وحتى داخل هذه المجموعة بوجد تدرج في المستويات (hierarchy). وفي عام 1983 نشرت مجلة Harper’s Magazine مقالاً بعنوانRuhing the World of Money أشار فيها الكاتب Edward Jay Epstein إلى أن الأعمال الحقيقية يجري انجازها من خلال مجموعة صغيرة (نادي ضيق inner club) يتكون من نصف دستة (ستة) من مسئولي البنوك المركزية القوية جداً الذين يدركون أنهم في قارب نقدي واحد (Same monetary boat)، وهم مسئولو البنوك المركزية في كل من ألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا وايطاليا واليابان وانجلترا. ويشير كاتب المقال إلى أن المبدأ الأساسي الذي يميز أعضاء المجموعة الصغيرة (النادي الضيق) عن غيره من أعضاء بنك التسويات الدولية هو الاعتقاد الراسخ في أن البنوك المركزية يجب أن تتصرف باستقلالية عن حكومات بلدانها، كما يرتبط بهذا الاعتقاد اعتقاد آخر في أنه لا يجب أن توضع ثقة في السياسيين ليحددوا مصير النظام النقدي الدولي.
وفي عام 1974 تم إنشاء لجنة بازال للرقابة المصرفية The Basel Committee on Banking Supervision) من جانب محافظي البنوك المركزية في الدول العشرة الكبرى (G10)والتي أصبحت الآن (G20). ويتولى بنك التسويات الدولية أمر تعيين الاثني عشر عضوا الذين يمثلون سكرتارية لجنة بازال للرقابة المصرفية. وتقوم هذه اللجنة بوضع القواعد المنظمة للأنشطة المصرفية على المستوى العالمي، ومن بينها ضوابط الاحتياطيات ومتطلبات رأس المال.
وفي عام 2003 كتب Joan Veon مقالاً بعنوان بنك التسويات الدولية يدعو إلى إنشاء عملة عالمية، وأشار في مقاله إلى أن بنك التسويات الدولية يمثل كياناً يلتقي من خلاله كل البنوك المركزية في العالم لتحليل الاقتصاد العالمي وتحديد مسارات العمل التي يمكن لهم من خلالها تكديس المزيد من الأموال في جيوبهم، حيث أنهم يتحكمون في كمية النقد المتداول ومستوى الفائدة التي تتحملها الحكومات والبنوك التي تلجأ إليها هذه الحكومات للاقتراض.
وعندما نكتشف أن بنك التسويات الدولية يمسك بخيوط النظام النقدي العالمي، ندرك أنه يقدر على خلق حالة من الازدهار المالي أو الأزمة في بلد معين، عندما لا ينفذ ذلك البلد ما يريده المقرضون، فيعمدون إلى بيع عملة ذلك البلد.
وقد تجلت سطوة بنك التسويات الدولية في رفع أو ضرب اقتصادات الدول بمناسبة مقررات لجنة بازل التي أصدرها البنك في عام 1988 بشأن رفع نسبة متطلبات رأس مال البنوك من 6% إلى 8% أو ما يعرف بمعدلات كفاية رأس المال. حيث كانت اليابان في ذلك الوقت أكبر دولة دائنة على مستوى العالم، وفي ذات الوقت كانت معدلات كفاية رأس المال للبنوك اليابانية أقل من مثيلاتها لدى البنوك في غيرها من الدول. وقد أدى تنفيذ البنوك اليابانية لمقررات لجنة بازال إلى رفع متطلبات رأس المال وخفض مستويات الإقراض لديها، وهو ما أدى بدوره إلى خلق حالة من الكساد في اليابان تشبه حالة الكساد التي تمر بها الولايات المتحدة حالياً، حيث تراجعت أسعار العقارات وتعثر سداد القروض وتراجعت فرص الإقراض بسبب نقص الضمانات المتوافرة لتقديمها. وقد أعقب ذلك اتجاه هبوطي في الأداء الاقتصادي حتى وصلت البنوك إلى حالة الإفلاس. وقد ترتب على ذلك اتخاذ الحكومة اليابانية إجراءات لتملك حصصاً كبيرة في البنوك.
ومن ناحية أخرى، فقد ترتب على مقررات لجنة بازال حدوث أضرار لا ترتبط بصورة مباشرة بهذه المقررات، ومنها انتشار حالات الانتحار فيما بين المزارعين الهنود نتيجة عجزهم عن الحصول على قروض، حيث تقتضي معايير لجنة بازل بخصوص كفاية رأس المال أن تكون القروض المقدمة للمقترضين من القطاع الخاص مرجحة بالمخاطر (risk weighted) على أساس درجة المخاطر التي تحددها وكالات تصنيف خاصة. ونظراً لعدم قدرة المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة على دفع مصاريف خدمات تقييم المخاطر من جانب هذه الوكالات، فقد رفعت البنوك درجة المخاطر إلى 100% عند ترجيح أوزان المخاطر للقروض المقدمة لهؤلاء المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة، ومن ثم قاومت البنوك تقديم القروض إلى هذه الفئة من المقترضين بإعتبارها فئة عالية المخاطر. وعندما صحا ضمير الأمة نتيجة لتزايد حالات الانتحار، وإدراكاً من الحكومة لأوضاع المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين تجاهلتهم البنوك التجارية، فقد اتبعت الحكومة سياسة لإنهاء حالات الإقصاء المالي للضعفاء. ومع ذلك تبقى هذه السياسة محدودة الأثر نتيجة القيود التي يفرضها بنك التسويات الدولية من الخارج.
وقد قام هنري ليو بتحليل تأثيرات مقررات لجنة بازل في توجيه النظم المصرفية الوطنية لتضبط إيقاعها مع الأسس التي تضمنتها هذه المقررات، والتي صُممت لتلبي متطلبات أسواق المال العالمية التي تتسم بدرجة عالية من التطور، وذلك بصرف النظر عن الاحتياجات التنموية للاقتصادات الوطنية. وفي هذا الخصوص، يشير هنرى ليو إلى أن النظم المصرفية الوطنية فد وجدت نفسها فجأة بين فكي رحى مقررات لجنة بازال بشأن كفاية رأس المال التي تبناها بنك التسويات الدولية (BIS). فإما الإنصياع لهذه المقررات أو مواجهة المخاطر المترتبة على الاقتراض بمعدلات فائدة مرتفعة نتيجة للاقتراض غير المضمون من الأسواق المصرفية العالمية. وهكذا تصبح السياسات الوطنية مطية للمؤسسات المالية الخاصة وحوافز الربح لديها. والحال هكذا، يصبح كل المسئولين في مختلف المستويات خاضعين وموجهين من المراكز النقدية المصرفية في نيويورك، وتكون النتيجة هي إجبار النظم المصرفية الوطنية على الخصخصة.
وتجدر الإشارة إلى أن القواعد التي يضعها بنك التسويات الدولية هي فقط من أجل تقوية النظام المصرفي الخاص على المستوى العالمي، وحتى لو كان ذلك على حساب الاقتصادات الوطنية. وفي هذا الإطار يعمل كل من صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية كفريق واحد، حيث تقوم البنوك العالمية بتقديم القروض إلى المقترضين في الأسواق الناشئة غير عابئة بما ينجم عن ذلك من أزمات الديون بالعملة الأجنبية، وعندئذ يأتي دور صندوق النقد الدولي (حامل الفيروس النقدي) ليوصي هذه الاقتصادات بإتباع سياسات نقدية سليمة، ويتبع ذلك انقضاض البنوك العالمية كالجوارح المفترسة للاستثمار في تلك الاقتصادات في إطار ما يسمى بالإنقاذ المالي، حيث يتم الاستحواز على البنوك الوطنية التي تم تصنيفها من قبل بنك التسويات الدولية (BIS) بإعتبارها متعثرة ولا تلبي معايير كفاية رأس المال.
ومما يثير السخرية، على حد قول هنري ليو، فإن الدول النامية بما يتوافر لديها من موارد طبيعية لا تحتاج فعلياً إلى الاستثمار الأجنبي الذي أوقعهم في مصيدة الدين الخارجي. وإذا طبقنا نظرية الدولة في النقود (The State theory of Money) والتي تقوم على افتراض أن الأمة ذات السيادة تكون لها السلطة لإصدار النقد، فإن أي حكومة تستطيع أن تمول بعملتها كل الاحتياجات التنموية المحلية لتحافظ عل مستوى التشغيل الكامل دون ارتفاع معدل التضخم. وعندما تقع الحكومات في فخ القبول بالاقتراض بالعملات الأجنبية، تصبح عندئذ “دول مدينة” يحق لصندوق النقد الدولي (IMF) وبنك التسويات الدولية (BIS) أن يطبق على هذه الدول قواعدهما. وبموجب هذه القواعد تلتزم هذه الدول بتوجيه الإنتاج للتصدير حتى توفر النقد الأجنبي اللازم للوفاء بالالتزامات المترتبة على الدين الخارجي. وحيث أن البنوك الوطنية في هذه الدول قد اعُتبرت غير مستوفية لمعايير كفاية رأس المال فينبغي عليها أن تخضع لقيود أشبه بالشروط التي يفرضها صندوق النقد الدول على الدول المدينة.
ومن أبرز القيود التي تُفرض على البنوك الوطنية في الدول المدينة، رفع متطلبات رأس المال، وشطب الديون، والتصفية وإعادة الهيكلة من خلال إجراء تخفيضات سعرية أو الإغلاق أو تقليل الحجم أو تخفيض التكلفة أو تجميد الإنفاق الرأسمالي. وفي هذا الخصوص، أكد هنري ليو على أنه وعلى عكس المنطق الذي يقتضي أن يؤدي النظام المصرفي السليم إلى التشغيل الكامل والنمو المقترن بالتنمية، فإن الالتزام بقواعد بنك التسويات الدولية (BIS) يؤدي إلى ارتفاع مستوى البطالة وتراجع مستويات التنمية في الاقتصادات النامية كجزاء عادل للحفاظ على نظام مصرفي سليم على المستوى العالمي.
هذا، وفي ذات الوقت الذي تُعاقب فيه البنوك الوطنية في الدول النامية بسبب عدم استيفاء متطلبات رأس المال التي وضعها بنك التسويات الدولية، فقد نجحت البنوك العالمية الكبرى في تجاوز هذه القواعد، وذلك على الرغم مما تتعرض له هذه البنوك من مخاطر هائلة بسبب الانكشاف الناتج عن المراكز المدينة للمشتقات المالية. وقد استطاعت البنوك العملاقة (The Megabanks) أن تجد مخرجاً تستطيع من خلاله أن تتحمل تكلفة أدنى لرؤوس الأموال من خلال الأنشطة التي لا تعكسها ميزانيات هذه البنوك (off-balance sheet activities)، حيث تستطيع هذه البنوك أن تحصل على قروض لا تنعكس كالتزامات ضمن ميزانياتها، وذلك عن طريق إدماج هذه القروض في أوراق مالية لبيعها بخصم معين إلى مستثمرين، وذلك بعد فصل المخاطر المرتبطة بالتعثر عن سداد هذه القروض وبيعها أيضاً بخصم معين إل مستثمرين آخرين، وذلك من خلال أداة من أدوات المشتقات المالية يطلق عليها (Credit default Swaps) أو عقود التبادل لسد العجز في المراكز الدائنة.
وينبغي التنويه بأن البنوك الأمريكية لا يمكن لها أن تتفادى الالتزام بقواعد بنك التسويات الدولية بصورة تامة. فقد أدت الشكاوي بشأن وجود ثغرات فيما يتعلق بمقررات بازل إلى الإسراع يوضع مجموعة جديدة من القواعد التي أطلق عليها بازالII (Basel II)، والتي تضمنت وضع أساس لمتطلبات رأس المال لمواجهة مخاطر السوق وفقاً للمعيار المحاسبي “القيمة المحملة بالمخاطر” (Value at risk). وقد تم التوصل إلى القواعد الجديدة في عام 2007، ولكنها لم تُفرض على البنوك الأمريكية حتى نوفمبر 2007، وهو الشهر التالي لوصول مؤشر داو جونز للأسهم الأمريكية إلى أعلى مستوى له في تاريخه، حيث تجاوز 14000 نقطة. وفي أول نوفمبر 2007، وافق مكتب الرقابة على العملة ( (The office of the Controller of the Currencyعلى تنفيذ مقررات بازال (II)، بعد إدخال التعديلات النهائية عليها في 15 نوفمبر 2007، وذلك ضمن حزمة معايير المحاسبة المالية (157 معيار) التي تبناها مجلس معايير المحاسبة المالية (FASB). وكان تأثير تطبيق هذه المعايير على البنوك الأمريكية مشابها لتأثير تطبيق معايير بازل على البنوك اليابانية، حيث دخلت البنوك الأمريكية في مرحلة الصراع من أجل البقاء منذ ذلك التاريخ.
وبموجب قاعدة التقييم على أساس السوق (The mark to market rule) فإن البنوك تكون مطالبة بتعديل قيمة الأدوات المالية المتداولة لتعكس سعر السوق (market price) لتلك الأدوات. وعلى الرغم من المزايا النظرية لتطبيق مثل هذه القاعدة، فإن المشكلة تكمن في توقيت هذا التطبيق، حيث تم تطبيقها بعد فوات الأوان (ex post Facto)، وانعكست بالتالي القيمة السوقية المتدنية للأصول على قيمتها في سجلات البنوك. وبموجب هذه الأوضاع، تحول المقرضون اللذين كانوا يعتبرون أنفسهم ذا ملائة رأسمالية جيدة إلى معسرين. وفي هذا الخصوص، كتب المحلل المالي جون بيرلو في أكتوبر 2008 مشيرا إلى الأزمة المالية التي وصفوا انتشارها بإعتباره “عدوى الأنفلونزا الأمريكية” حيث أرجع انتشار العدوى إلى القواعد الدولية لمقررات بازل (Basel II). وقد تم تطبيق نفس القواعد من جانب الاتحاد الأوروبي، وأدت إلى تسارع الأزمة المالية أيضاً.
وغالباً ما يُطلق على الأزمة فشل السوق ((market failure. ويبدو مصطلح “التقييم على أساس السوق (mark to market) معززاً لهذا التعريف. ويخلص جون بيرلو إلى أن قاعدة “التقييم على أساس السوق” هي ضد السوق وتعوق أداء السوق لوظائفه وخصوصاً في مجال تحديد الأسعار، حيث يؤدي تطبيق هذه القاعدة المحاسبية إلى اضطرار بعض الأطراف إلى التخلي عن أصل من الأصول في الوقت الذي لا يكون فيه أداء السوق مواتياً.
وقد أدى فرض تطبيق قاعدة التقييم على أساس السوق (mark to market rule) على البنوك الأمريكية إلى تجميد قدرة هذه البنوك على تقديم الائتمان، وقد أدى ذلك بدوره إلى تراجع أداء الاقتصاد الأمريكي وغيره من اقتصادات الدول على المستوى العالمي. وفي إبريل 2009، بدأ مجلس معايير المحاسبة المالية (FASB) في تخفيف القيود المتعلقة بتطبيق قاعدة “تقييم الأصول على أساس سعر السوق (market to maker rule)، وذلك بفضل الضغوط التي مارسها بعض السياسيين ورجال المصارف، إلا أن هذه التغييرات لم تمس جوهر القواعد المحاسبية التي وضعها بنك التسويات الدولية (BIS) ومجلس معايير المحاسبة المالية (FASB). وفي هذا الصدد، يشير جون بيرلو إلى أن بنك التسويات الدولية (BIS) كانت قد وجهت إليه تحذيرات منذ عام 2001 بشأن مقررات بازل II (Basel II)، وخصوصاً فيما يتعلق بالتأثيرات الانكماشية لتطبيق هذه المقررات، حيث يؤدي تطبيقها خلال فترات تراجع أداء النشاط الاقتصادي إلى جعل الأمور أكثر سوءاً.
وفي تعليق رسمي من جانب بعض الاقتصاديين على مقررات لجنة بازل II بخصوص الرقابة المصرفية، أشاروا إلى أن مبدأ القيمة المرجحة بالمخاطر (Value at Risk) بمكن أن يزعزع استقرار الاقتصاد ويحدث انهيارات كان يمكن تجنبها إذا لم تطبق تلك المقررات. ويشير جون دانلسون إلى أن مقررات لجنة بازل II من شأنها مجتمعة أن تعزز من دور العوامل الدافعة لحدوث الأزمات الدورية وزيادة درجة انكشاف النظم المالية أمام تلك الأزمات. وقد دعا هؤلاء الاقتصاديين إلى التصدي للآثار السلبية لتطبيق مقررات لجنة بازال II، وإعادة النظر فيها قبل فوات الأوان. ولم يستجب بنك التسويات الدولية (BIS) لهذه المطالبات، بل أنه في ظل الخراب الواسع الذي نتج عن تطبيق القواعد التي وضعها بنك التسويات الدولية، وما أشار إليه بوضوح أصحاب نظرية المؤامرة، يبرز التساؤل: لماذا يقف بنك التسويات الدولية متفرجاً وهو يرى الاقتصاد العالمي ينهار أم أن الهدف هو إحداث هذا الخراب الاقتصادي الكبير ليدفع العالم للارتماء بلا مقاومة بين زراعي المنقذ الاقتصادي بعملته العالمية التي تستند إلى القواعد الخاصة التي أرساها.
إعداد
سامي عزيز جرجس
14 أبريل 2011
ش.س
[1] – وحدة حقوق السحب الخاصة (SDR)، هي أصل احتياطي دولي أنشأه الصندوق في عام 1969 (بموجب التعديل الأول لاتفاقية تأسيسه) نتيجة لقلق البلدان الأعضاء من احتمال عدم كفاية المخزون المتوفر آنذاك والنمو المتوقع في الاحتياطيات الدولية لدعم التوسع في التجارة العالمية وكانت أهم الأصول الاحتياطية في ذلك الحين هي الذهب ودولار الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يشأ الأعضاء أن تعتمد الاحتياطيات العالمية على إنتاج الذهب بما ينطوي عليه من تقلبات كامنة، وعلى العجز المتواصل في ميزان مدفوعات الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي كان مطلوباً لتحقيق نمو مستمر في الاحتياطيات بالدولار الأمريكي. وتم استحداث حقوق السحب الخاصة كأصل احتياطي تكميلي يمكن لصندوق النقد الدولي “تخصيصه” للبلدان الأعضاء بصفة دورية حين تنشأ الحاجة. كما يمكن له إلغاؤه إذا ما اقتضت الضرورة وحقوق السحب الخاصة – التي تعرف أحياناً باسم “الذهب الورقي” رغم تجردها من الوجود المادي – يتم تخصيصها للبلدان الأعضاء (في صورة قيود دفترية) كنسبة مئوية من حصصها.
وقد خصص الصندوق حتى الآن 21.4 بليون وحدة حقوق سحب خاصة (حوالي 29 بليون دولار أمريكي) للبلدان الأعضاء، وكان آخر تخصيص هو الذي تم في عام 1981 عندما تم تخصيص 4.1 بليون وحدة حقوق سحب خاصة لعدد 141 بلداً كانت هي أعضاء الصندوق في ذلك الحين. ومنذ عام 1981، لم ير الأعضاء حاجة لإجراء تخصيص عام آخر لحقوق السحب الخاصة، وهو ما يرجع في جانب منه إلى نمو أسواق رأس المال الدولية ولكن في سبتمبر 1997، مع ازدياد عدد البلدان الأعضاء في الصندوق – التي تضمنت بلداناً لم تكن قد تلقت أي تخصيص بعد – اقترح مجلس المحافظين إدخال تعديل رابع على اتفاقية تأسيس الصندوق. وعند الموافقة على هذا التعديل بالأغلبية المطلوبة من أصوات الحكومات الأعضاء، فسوف يصرح الصندوق بإجراء تخصيص خاص لمرة واحدة “لتحقيق المساواة” بمقدار 21.4 بليون وحدة حقوق سحب خاصة، على أن يتم توزيعها على نحو يرفع نسبة مخصصات كل الأعضاء من حقوق السحب الخاصة التراكمية إلى حصصها لتصل إلى مستوى معياري مشترك ويجوز للبلدان الأعضاء في الصندوق استخدام حقوق السحب الخاصة في المعاملات مع بعضها البعض، ومع 16 حائزاً “مؤسسياً” لحقوق السحب الخاصة، ومع الصندوق. كذلك فإن وحدة حقوق السحب الخاصة هي وحدة الحساب التي يستخدمها الصندوق. وتستخدم حقوق السحب الخاصة كوحدة حساب أو كأساس لوحدة الحساب في عدد من المنظمات الدولية والإقليمية والاتفاقات الدولية وتتحدد قيمة وحدة حقوق السحب الخاصة يومياً باستخدام سلة من أربع عملات رئيسية هي اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني والدولار الأمريكي. وفي أول أغسطس 2001، كانت وحدة حقوق السحب الخاصة تساوي 1.26 دولار أمريكي. وتجري مراجعة العملات المكونة للسلة كل خمس سنوات لضمان تمثيلها للعملات المستخدمة في المعاملات الدولية والتأكد من أن الأوزان المحددة للعملات تعكس أهميتها النسبية في النظم المالية والتجارية العالمية.
المصدر:imf.org (المترجم)
يمكن أن تتمثل في بنك التسويات الدولية (Bank for International Settlements – BIS). وأشار محافظ بنك انجلترا إلى أن صندوق النقد الدولي غالباً ما يوجه تحذيراته بشأن المشكلات الاقتصادية بأسلوب يتسم بالدبلوماسية، في حين أن بنك التسويات الدولية يتمتع باستقلالية أكبر وهو مؤهل بدرجة أكبر للإضطلاع بهذا الدور إذا توافرت له الصلاحيات التي تؤهله للقيام بذلك.
وإذا كانت الرؤية المتعلقة بإنشاء عملة عالمية بعيداً عن سيطرة الحكومات غير كافية لتهدئة مخاوف أصحاب نظرية المؤامرة فإن إسناد جهة إصدارها إلى بنك التسويات الدولية من شأنه أن يهدأ من هذه المخاوف. وقد أنشئ بنك التسويات الدولية (BIS) في مدينة بازل بسويسرا في عام 1930. وقد عرف هذا البنك بأنه من أكثر المؤسسات فوق القومية التي تتمتع بالحصانة والسرية على المستوى العالمي. وكانت اتهامات قد وجهت إلى بنك التسويات الدولية بأنه كانت لديه ميول نازية خلال ثلاثينات القرن الماضي. وقد تبنت الحكومة الأمريكية قراراً أثناء مؤتمر بريتون وودز يطالب بتصفية بنك التسويات الدولية، وقد نجح ممثلو البنوك المركزية الأوروبية في هذا المؤتمر في سحب القرار الأمريكي بهذا الشأن.
وقد كشفت كارول كويجلي في كتابها In Tragedy and Hope: A History of the world in Our Time-1966) عن حقيقة الدور الذي يقوم به بنك التسويات الدولية في مجال التمويل الدولي. وقد عملت الدكتورة كويجلي أستاداً للتاريخ في جامعة جورج تاون، وتعتبر المعلم الخاص للرئيس بيل كلنتون. وقد عملت الدكتورة كويجلي ضمن مجموعة المصرفيين الدوليين (International Bankers): وقد برهنت على مصداقيتها من خلال تبنيها لأهداف هذه المجموعة، حيث كتبت تقول بأنها على علم بطبيعة المعاملات التي تجري من خلال بنك التسويات الدولية، حيث قامت يتتبعتها على مدى 20 عاماً. وقد سُمح لها لمدة عامين في أوائل ستينات القرن الماضي أن تقوم بتفحص أوراقه وسجلاته السرية. وأوضحت الدكتورة كويجلي أنه ليس لديها إعتراض على الجانب الأكبر من هذه المعاملات وأغراضها وأدواتها. وتبقى نقطة الخلاف الأساسية حول الرغبة في إحاطة هذه المعاملات بالسرية، حيث يلعب هذا البنك دوراً مهماً في النظام المالي العالمي مما يستدعي التعرف على هذا الدور.
وتشير كارول كويجلي إلى أن الرأسمالية المالية تسعى من خلال بسط نفوذها إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى، ليس أقلها العمل على تكريس نظام عالمي للسيطرة المالية في أيدٍ خاصة تكون قادرة على إخضاع النظام السيادي في كل بلد واقتصاد العالم ككل. إن مثل هذا النظام قد تشكل على النمط الإقطاعي بواسطة البنوك المركزية من خلال جهود منسقة على المستوى العالمي، وذلك من خلال اتفاقات سرية، تم التوصل إليها عبر العديد من الاجتماعات والمؤتمرات الخاصة. ويمثل بنك التسويات الدولية رأس هذا النظام بإعتباره بنكاً خاصاً تمتلكه وتديره البنوك المركزية التي نشأت منذ البداية كمؤسسات خاصة. ويعتمد نجاحهم في هذا الصدد على مدى سيطرتهم وتأثيرهم على النظام النقدي في أي بلد في ذات الوقت الذي تبدو فيه الأمور كما لو كانت تحت سيطرة الحكومة.
ويأتي ما ذكر سابقاً كصدى لما تم وضعه من أسس في القرن الثامن عشر على أيدي مؤسس أعرق العائلات المصرفية في العالم وهو السيد ماير امشيل بور روتشيلد والذي صرح في عام 1791 بالقول “دعوني أصدر وأتحكم في عملة بلد ولن يهمني بعد ذلك أمر من يضع القوانين في ذلك البلد”. وقد أرسل ماير أبناءه الخمسة إلى أهم العواصم الرأسمالية في أوروبا وهي لندن وباريس وفينا وبرلين ونابولي. وكانت المهمة الأولى لكل منهم إنشاء نظام مصرفي يكون بمنأي عن سيطرة الحكومة، وبذلك تكون النظم الاقتصادية والسياسية في هذه الدول تحت سيطرة المصرفيين ولمصلحتهم بعيداً عن سيطرة مواطنيها. وعلى هذا الأساس، تم إنشاء بنوك مركزية مملوكة ملكية خاصة في كل بلد. وأصبح نظام البنوك المركزية هذا مسيطراً على اقتصادات العالم، حيث تتمتع البنوك المركزية بسلطة إصدار النقود، وتلجأ الحكومات إلى الاقتراض من البنوك المركزية لتسديد الديون المستحقة عليها وتمويل المعاملات الحكومية. ونتيجة لذلك، فإن الاقتصاد العالمي، بما فيه القطاع الصناعي والحكومة، يعتمد على الائتمان (أو الدين) الذي يوفره القطاع المصرفي بشكل إحتكاري، تقوده شبكة من البنوك المركزية الخاصة، ويقوم على رأس هذه الشبكة بنك التسويات الدولية (BIS) الذي يعتبر البنك المركزي للبنوك المركزية ومقره بازل بسويسرا.
وقد حافظ بنك التسويات الدولية (BIS) على صورته في الظل لسنوات عديدة، حيث ظل يقوم بأعماله متخذاً فندقاً معزولاً مقراً له. وفي ذلك المكان تم اتخاذ قرارات لتخفيض قيمة عملات أو الدفاع عن عملات، وإتخاذ قرارات لتثبيت سعر الذهب، وتنظيم الأنشطة المصرفية فيما وراء البحار(offshore banking)، ورفع أو خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وفي عام 1977، تخلى بنك التسويات الدولية عن أسلوب التستر في ممارسة أنشطته ليتحول إلى إدارة هذه الأنشطة من خلال مراكز أكثر كفاءة. ويشغل بنك التسويات الدولية حالياً مبنى يتكون من 18 طابقاً على شكل ناطحة سحاب دائرية، تشبه مفاعلاً نووياً أقيم في غير موضعه، في تلك المدينة التاريخية (بازال) التي تنتمي إلى العصور الوسطى. ويُعرف هذا المبنى الآن بأسم برج بازال (Tower of Basel). ويتمتع بنك التسويات الدولية بحصانة حكومية، ولا يدفع ضرائب، وله قوة بوليس خاصة به. وهو بالضبط كما أراده ماير روتشيلد، فوق القانون.
ويتكون بنك التسويات الدولية من 55 دولة عضو. ولكن الأعضاء (النادي) الذين يلتقون بصورة منتظمة في بازال هم أقل من ذلك بكثير. وحتى داخل هذه المجموعة بوجد تدرج في المستويات (hierarchy). وفي عام 1983 نشرت مجلة Harper’s Magazine مقالاً بعنوانRuhing the World of Money أشار فيها الكاتب Edward Jay Epstein إلى أن الأعمال الحقيقية يجري انجازها من خلال مجموعة صغيرة (نادي ضيق inner club) يتكون من نصف دستة (ستة) من مسئولي البنوك المركزية القوية جداً الذين يدركون أنهم في قارب نقدي واحد (Same monetary boat)، وهم مسئولو البنوك المركزية في كل من ألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا وايطاليا واليابان وانجلترا. ويشير كاتب المقال إلى أن المبدأ الأساسي الذي يميز أعضاء المجموعة الصغيرة (النادي الضيق) عن غيره من أعضاء بنك التسويات الدولية هو الاعتقاد الراسخ في أن البنوك المركزية يجب أن تتصرف باستقلالية عن حكومات بلدانها، كما يرتبط بهذا الاعتقاد اعتقاد آخر في أنه لا يجب أن توضع ثقة في السياسيين ليحددوا مصير النظام النقدي الدولي.
وفي عام 1974 تم إنشاء لجنة بازال للرقابة المصرفية The Basel Committee on Banking Supervision) من جانب محافظي البنوك المركزية في الدول العشرة الكبرى (G10)والتي أصبحت الآن (G20). ويتولى بنك التسويات الدولية أمر تعيين الاثني عشر عضوا الذين يمثلون سكرتارية لجنة بازال للرقابة المصرفية. وتقوم هذه اللجنة بوضع القواعد المنظمة للأنشطة المصرفية على المستوى العالمي، ومن بينها ضوابط الاحتياطيات ومتطلبات رأس المال.
وفي عام 2003 كتب Joan Veon مقالاً بعنوان بنك التسويات الدولية يدعو إلى إنشاء عملة عالمية، وأشار في مقاله إلى أن بنك التسويات الدولية يمثل كياناً يلتقي من خلاله كل البنوك المركزية في العالم لتحليل الاقتصاد العالمي وتحديد مسارات العمل التي يمكن لهم من خلالها تكديس المزيد من الأموال في جيوبهم، حيث أنهم يتحكمون في كمية النقد المتداول ومستوى الفائدة التي تتحملها الحكومات والبنوك التي تلجأ إليها هذه الحكومات للاقتراض.
وعندما نكتشف أن بنك التسويات الدولية يمسك بخيوط النظام النقدي العالمي، ندرك أنه يقدر على خلق حالة من الازدهار المالي أو الأزمة في بلد معين، عندما لا ينفذ ذلك البلد ما يريده المقرضون، فيعمدون إلى بيع عملة ذلك البلد.
وقد تجلت سطوة بنك التسويات الدولية في رفع أو ضرب اقتصادات الدول بمناسبة مقررات لجنة بازل التي أصدرها البنك في عام 1988 بشأن رفع نسبة متطلبات رأس مال البنوك من 6% إلى 8% أو ما يعرف بمعدلات كفاية رأس المال. حيث كانت اليابان في ذلك الوقت أكبر دولة دائنة على مستوى العالم، وفي ذات الوقت كانت معدلات كفاية رأس المال للبنوك اليابانية أقل من مثيلاتها لدى البنوك في غيرها من الدول. وقد أدى تنفيذ البنوك اليابانية لمقررات لجنة بازال إلى رفع متطلبات رأس المال وخفض مستويات الإقراض لديها، وهو ما أدى بدوره إلى خلق حالة من الكساد في اليابان تشبه حالة الكساد التي تمر بها الولايات المتحدة حالياً، حيث تراجعت أسعار العقارات وتعثر سداد القروض وتراجعت فرص الإقراض بسبب نقص الضمانات المتوافرة لتقديمها. وقد أعقب ذلك اتجاه هبوطي في الأداء الاقتصادي حتى وصلت البنوك إلى حالة الإفلاس. وقد ترتب على ذلك اتخاذ الحكومة اليابانية إجراءات لتملك حصصاً كبيرة في البنوك.
ومن ناحية أخرى، فقد ترتب على مقررات لجنة بازال حدوث أضرار لا ترتبط بصورة مباشرة بهذه المقررات، ومنها انتشار حالات الانتحار فيما بين المزارعين الهنود نتيجة عجزهم عن الحصول على قروض، حيث تقتضي معايير لجنة بازل بخصوص كفاية رأس المال أن تكون القروض المقدمة للمقترضين من القطاع الخاص مرجحة بالمخاطر (risk weighted) على أساس درجة المخاطر التي تحددها وكالات تصنيف خاصة. ونظراً لعدم قدرة المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة على دفع مصاريف خدمات تقييم المخاطر من جانب هذه الوكالات، فقد رفعت البنوك درجة المخاطر إلى 100% عند ترجيح أوزان المخاطر للقروض المقدمة لهؤلاء المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة، ومن ثم قاومت البنوك تقديم القروض إلى هذه الفئة من المقترضين بإعتبارها فئة عالية المخاطر. وعندما صحا ضمير الأمة نتيجة لتزايد حالات الانتحار، وإدراكاً من الحكومة لأوضاع المزارعين وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين تجاهلتهم البنوك التجارية، فقد اتبعت الحكومة سياسة لإنهاء حالات الإقصاء المالي للضعفاء. ومع ذلك تبقى هذه السياسة محدودة الأثر نتيجة القيود التي يفرضها بنك التسويات الدولية من الخارج.
وقد قام هنري ليو بتحليل تأثيرات مقررات لجنة بازل في توجيه النظم المصرفية الوطنية لتضبط إيقاعها مع الأسس التي تضمنتها هذه المقررات، والتي صُممت لتلبي متطلبات أسواق المال العالمية التي تتسم بدرجة عالية من التطور، وذلك بصرف النظر عن الاحتياجات التنموية للاقتصادات الوطنية. وفي هذا الخصوص، يشير هنرى ليو إلى أن النظم المصرفية الوطنية فد وجدت نفسها فجأة بين فكي رحى مقررات لجنة بازال بشأن كفاية رأس المال التي تبناها بنك التسويات الدولية (BIS). فإما الإنصياع لهذه المقررات أو مواجهة المخاطر المترتبة على الاقتراض بمعدلات فائدة مرتفعة نتيجة للاقتراض غير المضمون من الأسواق المصرفية العالمية. وهكذا تصبح السياسات الوطنية مطية للمؤسسات المالية الخاصة وحوافز الربح لديها. والحال هكذا، يصبح كل المسئولين في مختلف المستويات خاضعين وموجهين من المراكز النقدية المصرفية في نيويورك، وتكون النتيجة هي إجبار النظم المصرفية الوطنية على الخصخصة.
وتجدر الإشارة إلى أن القواعد التي يضعها بنك التسويات الدولية هي فقط من أجل تقوية النظام المصرفي الخاص على المستوى العالمي، وحتى لو كان ذلك على حساب الاقتصادات الوطنية. وفي هذا الإطار يعمل كل من صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية كفريق واحد، حيث تقوم البنوك العالمية بتقديم القروض إلى المقترضين في الأسواق الناشئة غير عابئة بما ينجم عن ذلك من أزمات الديون بالعملة الأجنبية، وعندئذ يأتي دور صندوق النقد الدولي (حامل الفيروس النقدي) ليوصي هذه الاقتصادات بإتباع سياسات نقدية سليمة، ويتبع ذلك انقضاض البنوك العالمية كالجوارح المفترسة للاستثمار في تلك الاقتصادات في إطار ما يسمى بالإنقاذ المالي، حيث يتم الاستحواز على البنوك الوطنية التي تم تصنيفها من قبل بنك التسويات الدولية (BIS) بإعتبارها متعثرة ولا تلبي معايير كفاية رأس المال.
ومما يثير السخرية، على حد قول هنري ليو، فإن الدول النامية بما يتوافر لديها من موارد طبيعية لا تحتاج فعلياً إلى الاستثمار الأجنبي الذي أوقعهم في مصيدة الدين الخارجي. وإذا طبقنا نظرية الدولة في النقود (The State theory of Money) والتي تقوم على افتراض أن الأمة ذات السيادة تكون لها السلطة لإصدار النقد، فإن أي حكومة تستطيع أن تمول بعملتها كل الاحتياجات التنموية المحلية لتحافظ عل مستوى التشغيل الكامل دون ارتفاع معدل التضخم. وعندما تقع الحكومات في فخ القبول بالاقتراض بالعملات الأجنبية، تصبح عندئذ “دول مدينة” يحق لصندوق النقد الدولي (IMF) وبنك التسويات الدولية (BIS) أن يطبق على هذه الدول قواعدهما. وبموجب هذه القواعد تلتزم هذه الدول بتوجيه الإنتاج للتصدير حتى توفر النقد الأجنبي اللازم للوفاء بالالتزامات المترتبة على الدين الخارجي. وحيث أن البنوك الوطنية في هذه الدول قد اعُتبرت غير مستوفية لمعايير كفاية رأس المال فينبغي عليها أن تخضع لقيود أشبه بالشروط التي يفرضها صندوق النقد الدول على الدول المدينة.
ومن أبرز القيود التي تُفرض على البنوك الوطنية في الدول المدينة، رفع متطلبات رأس المال، وشطب الديون، والتصفية وإعادة الهيكلة من خلال إجراء تخفيضات سعرية أو الإغلاق أو تقليل الحجم أو تخفيض التكلفة أو تجميد الإنفاق الرأسمالي. وفي هذا الخصوص، أكد هنري ليو على أنه وعلى عكس المنطق الذي يقتضي أن يؤدي النظام المصرفي السليم إلى التشغيل الكامل والنمو المقترن بالتنمية، فإن الالتزام بقواعد بنك التسويات الدولية (BIS) يؤدي إلى ارتفاع مستوى البطالة وتراجع مستويات التنمية في الاقتصادات النامية كجزاء عادل للحفاظ على نظام مصرفي سليم على المستوى العالمي.
هذا، وفي ذات الوقت الذي تُعاقب فيه البنوك الوطنية في الدول النامية بسبب عدم استيفاء متطلبات رأس المال التي وضعها بنك التسويات الدولية، فقد نجحت البنوك العالمية الكبرى في تجاوز هذه القواعد، وذلك على الرغم مما تتعرض له هذه البنوك من مخاطر هائلة بسبب الانكشاف الناتج عن المراكز المدينة للمشتقات المالية. وقد استطاعت البنوك العملاقة (The Megabanks) أن تجد مخرجاً تستطيع من خلاله أن تتحمل تكلفة أدنى لرؤوس الأموال من خلال الأنشطة التي لا تعكسها ميزانيات هذه البنوك (off-balance sheet activities)، حيث تستطيع هذه البنوك أن تحصل على قروض لا تنعكس كالتزامات ضمن ميزانياتها، وذلك عن طريق إدماج هذه القروض في أوراق مالية لبيعها بخصم معين إلى مستثمرين، وذلك بعد فصل المخاطر المرتبطة بالتعثر عن سداد هذه القروض وبيعها أيضاً بخصم معين إل مستثمرين آخرين، وذلك من خلال أداة من أدوات المشتقات المالية يطلق عليها (Credit default Swaps) أو عقود التبادل لسد العجز في المراكز الدائنة.
وينبغي التنويه بأن البنوك الأمريكية لا يمكن لها أن تتفادى الالتزام بقواعد بنك التسويات الدولية بصورة تامة. فقد أدت الشكاوي بشأن وجود ثغرات فيما يتعلق بمقررات بازل إلى الإسراع يوضع مجموعة جديدة من القواعد التي أطلق عليها بازالII (Basel II)، والتي تضمنت وضع أساس لمتطلبات رأس المال لمواجهة مخاطر السوق وفقاً للمعيار المحاسبي “القيمة المحملة بالمخاطر” (Value at risk). وقد تم التوصل إلى القواعد الجديدة في عام 2007، ولكنها لم تُفرض على البنوك الأمريكية حتى نوفمبر 2007، وهو الشهر التالي لوصول مؤشر داو جونز للأسهم الأمريكية إلى أعلى مستوى له في تاريخه، حيث تجاوز 14000 نقطة. وفي أول نوفمبر 2007، وافق مكتب الرقابة على العملة ( (The office of the Controller of the Currencyعلى تنفيذ مقررات بازال (II)، بعد إدخال التعديلات النهائية عليها في 15 نوفمبر 2007، وذلك ضمن حزمة معايير المحاسبة المالية (157 معيار) التي تبناها مجلس معايير المحاسبة المالية (FASB). وكان تأثير تطبيق هذه المعايير على البنوك الأمريكية مشابها لتأثير تطبيق معايير بازل على البنوك اليابانية، حيث دخلت البنوك الأمريكية في مرحلة الصراع من أجل البقاء منذ ذلك التاريخ.
وبموجب قاعدة التقييم على أساس السوق (The mark to market rule) فإن البنوك تكون مطالبة بتعديل قيمة الأدوات المالية المتداولة لتعكس سعر السوق (market price) لتلك الأدوات. وعلى الرغم من المزايا النظرية لتطبيق مثل هذه القاعدة، فإن المشكلة تكمن في توقيت هذا التطبيق، حيث تم تطبيقها بعد فوات الأوان (ex post Facto)، وانعكست بالتالي القيمة السوقية المتدنية للأصول على قيمتها في سجلات البنوك. وبموجب هذه الأوضاع، تحول المقرضون اللذين كانوا يعتبرون أنفسهم ذا ملائة رأسمالية جيدة إلى معسرين. وفي هذا الخصوص، كتب المحلل المالي جون بيرلو في أكتوبر 2008 مشيرا إلى الأزمة المالية التي وصفوا انتشارها بإعتباره “عدوى الأنفلونزا الأمريكية” حيث أرجع انتشار العدوى إلى القواعد الدولية لمقررات بازل (Basel II). وقد تم تطبيق نفس القواعد من جانب الاتحاد الأوروبي، وأدت إلى تسارع الأزمة المالية أيضاً.
وغالباً ما يُطلق على الأزمة فشل السوق ((market failure. ويبدو مصطلح “التقييم على أساس السوق (mark to market) معززاً لهذا التعريف. ويخلص جون بيرلو إلى أن قاعدة “التقييم على أساس السوق” هي ضد السوق وتعوق أداء السوق لوظائفه وخصوصاً في مجال تحديد الأسعار، حيث يؤدي تطبيق هذه القاعدة المحاسبية إلى اضطرار بعض الأطراف إلى التخلي عن أصل من الأصول في الوقت الذي لا يكون فيه أداء السوق مواتياً.
وقد أدى فرض تطبيق قاعدة التقييم على أساس السوق (mark to market rule) على البنوك الأمريكية إلى تجميد قدرة هذه البنوك على تقديم الائتمان، وقد أدى ذلك بدوره إلى تراجع أداء الاقتصاد الأمريكي وغيره من اقتصادات الدول على المستوى العالمي. وفي إبريل 2009، بدأ مجلس معايير المحاسبة المالية (FASB) في تخفيف القيود المتعلقة بتطبيق قاعدة “تقييم الأصول على أساس سعر السوق (market to maker rule)، وذلك بفضل الضغوط التي مارسها بعض السياسيين ورجال المصارف، إلا أن هذه التغييرات لم تمس جوهر القواعد المحاسبية التي وضعها بنك التسويات الدولية (BIS) ومجلس معايير المحاسبة المالية (FASB). وفي هذا الصدد، يشير جون بيرلو إلى أن بنك التسويات الدولية (BIS) كانت قد وجهت إليه تحذيرات منذ عام 2001 بشأن مقررات بازل II (Basel II)، وخصوصاً فيما يتعلق بالتأثيرات الانكماشية لتطبيق هذه المقررات، حيث يؤدي تطبيقها خلال فترات تراجع أداء النشاط الاقتصادي إلى جعل الأمور أكثر سوءاً.
وفي تعليق رسمي من جانب بعض الاقتصاديين على مقررات لجنة بازل II بخصوص الرقابة المصرفية، أشاروا إلى أن مبدأ القيمة المرجحة بالمخاطر (Value at Risk) بمكن أن يزعزع استقرار الاقتصاد ويحدث انهيارات كان يمكن تجنبها إذا لم تطبق تلك المقررات. ويشير جون دانلسون إلى أن مقررات لجنة بازل II من شأنها مجتمعة أن تعزز من دور العوامل الدافعة لحدوث الأزمات الدورية وزيادة درجة انكشاف النظم المالية أمام تلك الأزمات. وقد دعا هؤلاء الاقتصاديين إلى التصدي للآثار السلبية لتطبيق مقررات لجنة بازال II، وإعادة النظر فيها قبل فوات الأوان. ولم يستجب بنك التسويات الدولية (BIS) لهذه المطالبات، بل أنه في ظل الخراب الواسع الذي نتج عن تطبيق القواعد التي وضعها بنك التسويات الدولية، وما أشار إليه بوضوح أصحاب نظرية المؤامرة، يبرز التساؤل: لماذا يقف بنك التسويات الدولية متفرجاً وهو يرى الاقتصاد العالمي ينهار أم أن الهدف هو إحداث هذا الخراب الاقتصادي الكبير ليدفع العالم للارتماء بلا مقاومة بين زراعي المنقذ الاقتصادي بعملته العالمية التي تستند إلى القواعد الخاصة التي أرساها.
إعداد
سامي عزيز جرجس
14 أبريل 2011
ش.س