إثارة المجموعات العرقية والدينية ضد بعضها، العرب ضد الفرس، الأكراد ضد العرب، المسلمين ضد المسيحيين، السنة ضد الشيعة.. استخدام هذا لقمع ذاك، والسهر هكذا على الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في الشرق وعلى نهب موارد المنطقة، الطبيعية والبترولية، كان ذلك فن القوى الغربية والقناصل والدبلوماسيين في الشرق الأوسط، وآثارهم، منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا..
سوف ندرس في البداية أوجه التوازي بين الإحجام البريطاني عن التدخل عسكريا في سورية وامتناع فرنسا عن المشاركة في غزو العراق عام 2003. في مقال ثان، سنناقش الآثار المترتبة عن اكتشاف النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط بين قبرص وسورية وتركية واليونان ولبنان وإسرائيل. وفي مقال ثالث، سنحلل موازين القوى التي أُحدثت في المنطقة بعد هزيمة إسرائيل في حرب لبنان الثانية عام 2006.
إحجام بريطانيا العظمى عن التدخل عسكريا في سورية
يبدو لنا، اليوم، أن بريطانيا تتميز، في هذا الصدد، وبالنظر إلى الأسبوعين الماضيين فقط، رفض البرلمان البريطاني اقتراحا قدمه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون دافع فيه عن مبدأ التدخل العسكري في سورية ، بذريعة استخدام الجيش السوري الأسلحةَ الكيميائية “من الواضح أن البرلمان البريطاني لا يريد التدخل العسكري البريطاني. أسجل، والحكومة ستتصرف بالنتيجة”، هكذا كان رد ديفيد كاميرون بعد التصويت، مضيفا انه “متقيد باحترام إرادة مجلس العموم”(1).
في الواقع، رئيس الوزراء البريطاني، الذي يتمظهر بكامل الشجاعة في كل الظروف، لا يقبل معارضة إرادة الشعب ولا إرادة الأمة -اللتين عبرت عنهما إرادة مجلس العموم- وليس عن عجز، بل عن طيب خاطر وبكرم، لأنه يريد أن يجعلنا نعتقد أنه “من الأفضل أن يكون المرء منصفا من أن يكون جائرا”(2)، وأن “الخير هو ذلك الذي نحبه لذاته”، كما قال غلوكونGlaucon (3).
ومع ذلك، فإن الأسباب الكامنة وراء تصويت مجلس العموم على رفض التدخل العسكري في سورية، وكذا وراء قرار رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بـ”احترام إرادته”، لا يمكن تفسيرها في سياق ملاحظة أولى لـ”غلوكون”، أي “الخير هو ذاك الذي نحبه كما هو”، بل في سياق ملاحظته الثالثة القائلة بأن “الخير هو ذلك الذي لا نحبه إلا لنتائجه”. بعبارة أخرى في سياق موازين القوى واتفاقات التقسيم الاستعماري ومصالح إستراتيجية للدول المشاركة في الحرب على سورية، فإن امتناع ديفيد كاميرون عن التدخل عسكريا في سورية لا يفسر بوصفه احتراما للديمقراطية، بل كحساب للمكاسب والخسائر من مغامرة قد تكون تبعاتها أصعب من المنافع، ومعدل الخسارة أعلى من الأرباح.
أربع علامات استفهام
حتى نفهم امتناع ديفيد كاميرون عن التدخل عسكريا في سورية، نتطرق بالتوازي إلى امتناع جاك شيراك عن المشاركة في التدخل العسكري في العراق في عام 2003. نطرح هنا أسئلة أساسية قد تساعدنا على توضيح سياق الامتناعين:
1 – ما هو سبب امتناع فرنسا عن التدخل العسكري في العراق عام 2003، في حين سارعت إلى التلويح بحرب على سورية عام 2013؟
2 – ما هي دوافع السيد جاك شيراك – سلام عليه- لعدم إسراج جواده مع الأمريكان في العراق؟ أعن محبة أم عن تلطف ومجاملة؟ للتذكير، فقد كرر السيد جاك شيراك لجميع محاوريه -جموع الصحفيين او الضيوف الأجانب- أنْ “لا شيء يبرر اليوم حربا على العراق”، موازيا بين الـ100 مليار التي تتطلبها الحرب والـ100 مليون دولار المتعذرة، لمكافحة السيدا –الإيدز- في أفريقيا(4).
3 – في أي سياق سارع السيد توني بلير –حماه الله من تعويذات المرابطين- إلى “تحرير” الشعب العراقي في عام 2003، وإرساء “السلام والرخاء والديمقراطية ” في العراق -وأقترح هنا الاطلاع على قاموس متضادات جيد- في حين أن خلفه، ديفيد كاميرون، يبدو أكثر التزاما بـ”احترام إرادة مجلس العموم في عام 2013″؟.
4 – ما كانت مصلحة فرنسا في انخراطها، أول الآمر، في اليونيفيل بعد اجتياح إسرائيل للبنان أول مرة في عام 1978، ثم في قوات الأمن المتعددة الجنسيات في بيروت بعد اجتياح إسرائيل للبنان ثاني مرة عام 1982، وأخيرا في زيادة قواتها في اليونيفيل بعد حرب تموز 2006 بين إسرائيل ولبنان، بينما ظلت بريطانيا بعيدة عن كل مهام “السلام” هذه؟
بالتأكيد، لا يـُفسر الجواب على كل هذه الأسئلة بطيبة السيد شيراك ولا برقـّة السيد كاميرون، ولكن، أولا: من تبعات اتفاق سايكس بيكو(5) عام 1916 الذي فكك أوصال المقاطعات الشرقية الناطقة بالعربية من الدولة العثمانية إلى مناطق فرنسية ومناطق بريطانية. ثانيا: اكتشافات الغاز الحديثة في شرق البحر المتوسط. ثالثا، ميزان القوة الذي ساد المنطقة بعد هزيمة إسرائيل في حرب لبنان الثانية في جويلية-تموز 2006.
تجزيء المقاطعات العربية الشرقية من الإمبراطورية العثمانية
ما نحاول التأسيس له هنا هو -على وجه التحديد- هو معرفة حدث تاريخي ذي دلالة في تاريخ الشرق الأدنى، وتأثيره على الأحداث الحالية في سورية، واستنطاق الخارطة الجيو-سياسية في الشرق الأدنى، لقد رسمت حدود الدول الحالية في خضم الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، حسب تقسيم استعماري، نتج عن عدد من الاتفاقات والمعاهدات التي فرضتها فرنسا وبريطانيا، القوتان الاستعماريتان العظيمتان في ذلك الوقت، مثل اتفاق سايكس بيكو (1916)، وعد بلفور (1917)، ومؤتمر السلام (1919)، ومعاهدة سيفر (1920) ومعاهدة لوزان (1923). أعادت القوتان الامبرياليتان العظميان في تلك الحقبة رسم الحدود الداخلية والخارجية للمقاطعات الشرقية العربية من الإمبراطورية العثمانية، وفق ما تقتضيه مصالحهما الاستعمارية الخاصة، وليس مصالح الشعوب المحتلة (طبعا). لقد قسمت المحافظات المذكورة إلى مناطق فرنسية وأخرى بريطانية:
1- منطقة فرنسية بإدارة مباشرة، تضم لبنان الحالي وكيليكيا؛
2- منطقة عربية “أ”، تحت النفوذ الفرنسي، تضم شمال سورية الحالية ومحافظة الموصل؛
3- منطقة بريطانية بإدارة مباشرة مكونة من الكويت الحالية وبلاد ما بين النهرين؛
4- منطقة عربية “ب”، تحت النفوذ البريطاني، تضم جنوب سورية الحالية، الأردن الحالي، وفلسطين التي ستوضع تحت الوصاية مستقبلا؛
5- منطقة مدارة الدولية وتضم سان جان عكا وحيفا والقدس. وللمملكة المتحدة السيطرة على حيفا وعكا(6).
6-
واليوم، قرنا بعد اتفاقية سايكس بيكو، لا يزال الشرق الأدنى يعاني آثار التقسيم الاستعماري وعواقبه، رغم خطاب قادة الدول الغربية الخيري، وفي عز إفلاس الخطاب “التحريري” من دكتاتوريي العالم العربي. مئة سنة من اتفاق سايكس بيكو، تظهر فرنسا مرة أخرى أكثر استعمارية من أي وقت مضى، وخطابها إنساني أكثر من أي وقت مضى.
مثـَل كامرون كمـَثل شيراك
نحاول –آخذين بالاعتبار حدث سايكس بيكو التاريخي- أن نفهم إحجام السيد شيراك عن احتلال العراق في عام 2003 وكذا إحجام السيد كاميرون عن مهاجمة سورية في عام 2013. ويبدو لنا أكثر حصافة أن نقول أن السيد شيراك لم يتخذ موقفه من العراق عن حب للخير -“كحب الذئاب للحملان” (أفلاطون، فيدروس)- بل حذرا من تدخل في مناطق نهب استعماري حيث الكلاب هناك أكثر من العظام، وهذا يعني أن العراق لا يدخل ضمن منطقة النهب الاستعماري الممنوحة لفرنسا ضمن احترام لاتفاقية سايكس بيكو، بل في منطقة النهب الاستعماري التي تعود إلى بريطانيا. بالإضافة، ومن وجهة نظر لغوية، لا يدخل العراق في منطقة السيطرة والنفوذ الفرانكفوني في الشرق الأدنى المتضمنة لبنان وسورية(7)، ما يعني أنه لم يكن للفرنسيين الكثير من المصالح أو امتيازات النهب الاستعماري في هذا البلد كي يركبوا خيولهم لـ”تحريره” من طاغيته نبوخذ نصر صدام حسين. بالمقابل، يعتبر البريطانيون أنفسهم “الورثة الشرعيين” لسرقة العراق ونهبه، هذه “الشرعية” أكسبتهم إياها اتفاقية سايكس بيكو.
وفيما يتعلق بامتناع بريطانيا عن التدخل عسكريا في سورية وهرولة فرنسا لركوب حملة صليبية جديدة، نتطرق أيضا بالتوازي إلى امتناع الفرنسيين وهرولة البريطانيين عشية غزو العراق عام 2003. إن فرنسا تعتبر لبنان وسورية منطقة نفوذها الخاصة ومنطقة نهبها الاستعماري، وبالنتيجة، لا تجد بريطانيا أن مصالحها مهددة مباشرة في المنطقة التي كانت تاريخيا منطقة نفوذ فرنسي، لذلك ليس مستعجلا أمر تدخل عسكري، وتحديدا في هذا السياق. قد يكون مجديا، في هذا المعنى، إعادة النظر في اتفاقية سايكس بيكو (1916) ومعاهدة سيفر (1920) لبناء فكرة أكثر اتضاحا عن التقسيم والسرقة الاستعمارية التي طالت الشرق الأوسط.
والحال كذلك، تكبد النفوذ الفرنسي في المنطقة ثلاث خسائر خلال النصف الثاني من القرن العشرين: خسارة أولى عام 1963 مع تقلد حزب البعث زمام السلطة في سورية، أسفرت عن خروج هذا البلد عن منطقة النفوذ الفرنسي. خسارة ثانية مع هجمات 23 أكتوبر 1983، التي ضربت القوات الفرنسية والأمريكية في بيروت. وخسارة ثالثة مع غزو الجيش السوري المناطق المسيحية من لبنان في 13 أكتوبر 1990، ووضع البلد تحت عباءة الرئيس السوري حافظ الأسد في خضم حرب الكويت. وبعبارة أخرى، فرنسا الاستعمارية، التي لم تستطع أن تهضم العار الذي لحقها جراء فقدانها مناطق نفوذها في الشرق الأدنى، لا تسعى إلى معاقبة الرئيس بشار الأسد، بل إلى معاقبة سورية والشعب السوري، في محاولة جديدة لإدخالهما مرة أخرى تحت ثوبها الاستعماري ذي الألوان الثلاثة. ففي هذا السياق يمكن تفسير امتناع كاميرون عن التدخل عسكريا في سورية موازاة مع امتناع شيراك عن التدخل عسكريا في العراق عام 2003.. مَثل كامرون كمَثل شيراك.
(يتبع..)
الدكتورة: فداء دكروب
ترجمة: خالدة مختار بوريجي
إحالات:
(1) – على المباشر: البرلمان البريطاني لا يريد تدخلا في سورية (29 أوت-آب 2013)/ معاد: ليبيراسيون.
(2) – نفي بداية الحوار الذي جرى بين ثراسيماخوس وسقراط، قال الأول: “أتسعد، يا سقراط، بأن تبدو قد أقنعتنا، أم أنك تريد حقا إقناعنا، على أية حال، فمن الأفضل ان نكون عادلين على ان نكون غير ذلك”. أفلاطون. (1963). الجمهورية (R.Baccou)، باريس: مكتبة الاخوة غارنيي، الكتاب الثاني، ص. 41.
(3) – غلوكون أثينا (409 – 389 ق.م) فيلسوف وموسيقي، تلميذ سقراط والاخ الاصغر لأفلاطون. احد متحاوري سقراط الرئيسين في “جمهورية” أفلاطون، وخاصة في الجزء الثاني. ميز ثلاثة أنواع من الخير: ذاك الذي نحبه لذاته، ذاك الذي نحبه لذاته ولنتائجه، وذاك الذي لا نحبه الا لنتائجه.
(4) – لوبوان،14. 02. 2003. شيراك، بوش: الازمة.
(5) – بعد عمل تحضيري رسالي دام عدة أشهر بين بول كامبون، سفير فرنسا في لندن، والسير إدوارد غراي، وزير الدولة في وزارة الخارجية، تم إبرام اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا والمملكة المتحدة، بين السير مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو، 16 ماي 1916. نص الاتفاق على تجزيء بلاد المشرق وبلاد ما بين النهرين، على نحو أدق، المنطقة الواقعة بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر قزوين، جزء من الإمبراطورية العثمانية. المصدر: دكروب، فداء. (22 ماي 2013).. العناصر الجيو-سياسية للحرب الإمبريالية على سورية: نظام الشرق الأوسط القديم.
(6) – لورنس، هنري . (2003، ابريل-نيسان). كيف تفككت الإمبراطورية العثمانية. لوموند ديبلوماتيك، ص 16-17.
(7) – لبنان عضو في المنظمة العالمية للفرانكوفونية. كانت الفرانكوفونية كلية فيه قبل الحرب الأهلية (1975-1990). الفرنسية هي اللغة الرسمية الثانية في لبنان بعد العربية. في سورية، كان للفرنسية وجود قوي حتى مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1963 حيث بدأت سياسة تعريب التربية والتعليم.
.